الطبقة السياسية في بلادنا على اختلاف فصائلها لا تحضى بمصداقية عندالجماهير، ولا ترشحها مواقفها الهزيلة، لأن تكون شيئا مذكورا.. ذلك أنها عند المفاضلة بين الشعب، الذي هو مصدر نشأتها أول مرة، وبين نظام فاسد؛ فإنها تؤثر الركون إلى السلطة البائدة التي تعرضت لفشل عضوي بعدما أصابها عجز تام بالدماغ في إدارة شؤون البلاد..!
إن سياسة هذه الاحزاب ذات المواقف المتذبذبة أضحت مكشوفة لدى شريحة واسعة من الناس، وبالرغم من زعمها أنها تمثل هوية الشعب، وما يصبو إليه من تغيير، إلا أنها استحلت ذلك الانبطاح فهي لا تقدر على النهوض.. وقديما قالوا زعموا مطية الكذب..!
وفي حقيقة الامر، لا هي إلى الشعب الذي طلقها ثلاثا، وتركها وشأنها تلعب كيف تشاء، متسللة في منطقة الخصم، ولا إلى سلطة تبرأت منها بعدما أحتجزتها لفترة طويلة ثم لفظتها حين أيقنت أنها نافدة الصلاحية..!
تلك الطبقة التي همها الوحيد المشاركة في سلطة شاع فسادها، وكان شغلها الذي يأخذ حيزا من كبيرا من وقتها في كيفية التقرب منها واستمالة ودها.. ناهيك عن سياسة يكتنفها غموض كثيف، وكلام ملؤه نفاق سياسي ظاهره إسلام ووطنية، وباطنه رياء من قبله فساد الغاية..
هذا ما جعل الناس ينظرون إلى تلك الاحزاب نظرة ارتياب، ومحل سخرية لدى السواد الأعظم من الجماهير، وموقع اشمئزاز إذا ذ كرت في مجالسهم؛ فلا ضير إن تركهم الشعب وشأنهم، وهو يصد عنها صدودا..!
والطبقة السياسية عندنا أصبحت مضرب الأمثال في خستها ووضاعتها؛ فمثلها كمثل الذباب الذي يقتات على مخاط بعض الحيوانات أو نفاية من بقية ما يستهلك أو جيفة متعفنة، عفانة ما تفرزه استحقاقات مزورة من قمامة سياسية لاترقى إلى مبتغى الأمة و لا إلى أمنيتها..!!
ومثل النظام الذي يساندون كمثل مصاص الدماء vampire لا يلقي فريسته، حين يمسكها، إلا إذا أفرغها من دمائها، وكذلك يفعل النظام بالاحزاب التي تدور في فلكه؛ فهو يعمل على إفراغها من محتواها، حتى إذا استيقن أنها فقدت مصداقيتها لدى الشعب، حينئذ يعمد إلى طردها من حضرته، وإبعادها من دائرته متبرئا منها بشكل مهين؛ فمثله في ذلك "كمثل الشيطان إذ قال للانسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين" الاية.
هكذا حال بعض المشتغلين بالسياسة؛ فهم كالبعوض الذي دور حول مصباح ظنا منه أنه ينتفع بشئ مما يفرزه من دفء، ولكن سرعان ما يلقى حتفه فتراه منتشرا من لفحه صريعا..!
إنني، وأنا أخط هذه السطور، أشعر بحزن عميق، وبقلب يعتصره الأسى، من ذلك المنحدر الذي هوت إليه الطبقة السياسية ببلادنا، وذلك المنعطف الذي جعلها تحيد عن سواء السبيل، حيث أصبحت ذيل النظام الفاسد، وظله الذي لا يفارقه، ولسان حاله في الترويج لما يقوم به من أعمال منافية للقيم، ومخالفات ليست من الدين في شيء، وأخرى معارضة للدستور وقوانين البلاد.
ذلك ما جعل الأمة تصب جام غضبها على الذين باعوا القيم بغرض من الدنيا زائل، وابتعدوا عن مباديء مافتئوا
يذكِّرون بها الأتباع، ونأوا بجانبهم عن شعارات طالما عاهدوا بها الشعب الذي تبين، بعد أمّة، أنه كلام أجوف، وأحلام اليقظة ليس إلا..
فلا ضير إن سقطوا من أعين الناس سقطة حرة، تكسرت من جرائها زجاجتهم الفارغة؛ فراغ نواصيهم من ضمير يلجم النفس وينير الدرب، وخلو الصدور من أفئدة تؤنِّب أصاحبها وتردهم إلى سواء السبيل..
وحسبوا أن العباءة التي لبسُوها تدفع عنهم غضب الشعب الذي غدروابه باسم الدين، وأن المناصب التي تقلدوها تغنيهم شيئا من سخرية الجماهير التي طالما جعلوها مطية لمآرب دنيئة وغايات غير سليمة، وأن السلطة التي تهافتوا عليها تجعلهم في منأى من نقمة الناقمين.. وهيهات!.
إنه وبكل صراحة أقول ما أضاع المشروع الإسلامي وقدمه فداء لأغراض شخصية سافلة إلا أدعياؤه، يخدمون به مصالح غيرهم من المجرمين والمستأجرين من الخونة.. هذا كل ما قدمتم للأمة من هزائم بعد التي تنكرتم لها، وبعد أن أوصلتكم إلى مبتغاكم خلال فترة زهوكم بالمشاركة..!
روي مالك بن أنس رضي الله عنه قال لي أستاذي ربيعة: "يامالك، من السِّفْلة؟ قلت: من أكل بدينه. فقال: من سِفلة السِّفلة؟ قلت: من أصلح دنيا غيره بفساد دينه، فصدقني"!.
بيد أن ما قدمتموه من تنازل لأكابر المجرمين، الذين كنتم تنعتونهم بكل أشكال النعوت القبيحة، وتصفون أعمالهم بالردة والفساد والذنب الذي لا يغتفر، وما شاركتم فيه من زور، وكنتم شهود عليه أكبر بكثير، ولا يعلم مدى ضرره على الأمة وأجيالها، من بعد، إلا الله..
وحسبتم أن ينطلي غدركم بالجماهير مرة أخرى وهيهات.. وظننتم أنه باستطاعتكم أن تضللوا فصيلا من الشعب لكن ليس بمقدوركم فعل ذلك بالأمة كلها.. وقد تُغْرون شعبا لسنوات عدة، لكن ليس بوسعكم فعل ذلك أبد الدهر إذا ما تفطنت الأمة لخداع باسم الدين..!
إن الله حذر المسلمين من مغبة المداهنة والمجاراة في جلسات قد تكون مبادئ الدين فيها محل استهزاء أو مساومة أو طعن، وقد فعلتم هذا في البرلمان أيام أن وضع بين أيديكم مشروع تعديل الدستور، وقانون استيراد الخمور... إلخ، ولم يكن لكم موقف يذكر إزاء ما تعرضت له الشريعة من تفكك.. !!" وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً.."
وكنا نقول يومها، إنه لم يعد لكم مبرر للبقاء مع هذا النظام الذي مافتئ يسفه أحلام هذا الشعب الأبي، ويتربص بأعز ما تملك قيم ريب المنون، وينال من دينه الذي ارتضاه الله لهذه الأمة وارتضته لنفسها منذ أن حل الاسلام بهذه الأرض المباركة.
احذروا! فإن مطاوعة هذا النظام على هذا النحو يعد في دين الله ركونا إلى الذين ظلموا، وما أضل وأضاع الأمة إلا مثل هذا الركون السيء إلى الظالمين، وإنه ليعد خيانة لله والرسول و الأمة جميعا!.
واعلموا أن بقاءكم مع هذا النظام، إنما هو إطالة له في العمر، وتشجيع له للمضي في غيه، وتأييد لمشروعه الاستئصالي، وتعزيزا لمكاسبه الخسيسة، وتمكين له ولسياسته المناوئة للإسلام المملاة عليه، من وراء البحار، طوعا و كرها..
إن السياسة، في دين الله، ولا في دين من يحترمون أنفسهم، ليست حرفة لأهواء جامحة، أو مرتعا لشهوات جارفة، أو هرولة وراء مغانم مشبوهة، أو مناصب توهب جزافا، أو ذمما تباع وتشترى، أو مطية إلى عرض زائل.. كما أنها ليست غاية في حد ذاتها؛ فالغاية أسمى وأجل يا أولي الألباب..!
ولو فهم هؤلاء أنهم دعاة إلى الله، قبل كل شيئ، ما قبلوا أن يكونوا حثالة بأيدي من كانوا يعدونهم من الأشرار، ولو فقهوا هذا المعنى جيدا ما استبدلوه بنعيم الدنيا، لو علموا بتكليف ما تحملوا من أمانة لهان كل شيء أمام ما استخلصوا له من شرف.. لكنهم أخلدوا إلى سلطان ماكر، وانحدروا من علياء، ومن مكانة ليسوا لها أهلا في حقيقة الامر..
إن الناس لا تلوم فردا لا يمثل إلا نفسه، وغير محسوب على الإسلام؛ فالشخص قد يغرى بالمنصب، وقد يضعف أمام حجم المغريات التي تحيطه من كل مكان، وقد يعتريه ضعف العزيمة فيقع فيما نهي عنه، بقدر ما يتجه عتابهم إلى فصيل ممن زعموا أنهم يمثلون الأسوة الحسنة لغيرهم، والنموذج الأصلح للبلاد والعباد على سواء..!
وما اختيروا إلا ليمثلوا مكارم الاسلام ومحاسنه أحسن تمثيل، وتفوق الذن تربوا في رحابه عمن سواهم من أصحاب المناهج العلمانية المستوردة من الغرب، و البرامج التي هي أقرب ما تكون إلى الشيطنة منها إلى منهج سليم ونظام قويم.. ولله در قائل هذه الأبيات فقد أفصح وأماط اللثام عن غاية الانسان في هذه الدنيا:
قد رشحوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
وها نحن قد جربنا مسار المشاركة؛ فتبين بعد أن خبرناه خبرة مريرة، وفقدنا فيه من رصيدنا كل نفيس، بأنه غير مجد، ولو كان يغني من الحق شيئا لأثمرت نتائجه، ولقطفنا من ثماره ما يسمن ويغني من جوع، ولهذا عوقب الإسلاميون في الجزائر مرارا، وليتهم اتعظوا..!
وهذه المرة أخذ هؤلاء الأدعياء، وأصحاب المشاركة على وجه الخصوص، من النظام الذي كانوا يوالون، إلى عهد قريب، صكة لن يقوموا بعدها أبدا، وأخرى على يد الأتباع الذين عزفوا عن الاقتراع بعد ما ناشدتهم قواعدهم بالانسحاب من هذه المهزلة، وهذه أنكى وأشد ألما وحسرة..
وقد كانوا من قبل يشدون أزرهم في الاستحقاقات التي سبقت، ويمدونهم بالأموال ولو كان بهم خصاصة، ويبذلون أنفسهم وأوقاتهم على حساب أهليهم وذاويهم..!
إن التشدق بالكلام سهل، وهو وسيلة الذين ينتهجون سياسة غرس الرؤوس في الرمال كما تفعل النعام، فهم لا يحبون أن يروا الحقيقة بأم أعينهم، ولا يودون إدراك الواقع بالبصيرة فيلجؤون إلى الهروب إلى الأمام..
ولم يستح هؤلاء الحمقى وهم يدلون بتصريحات هي أقرب إلى البطر، سوف نفوز في هذا الاستحقاق بالضربة القاضية!. ولم يدري هؤلاء أنه قد نهينا عن مثل ذلك الزهو والعجب نهيا محرما..! "ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس.." الاية. وما أظن إلا أنه تصريح من يحسب وحده.. "واللي يحسب وحدُ يشطلُ "، على حد تعبير المثل الشعبي في الجزائر..
إن نتائج انتخابات 10ماي، بالرغم ما فيها من كلام يقال عن نزاهتها إلا أنها تعبر بصدق عن المقدمات التي أسستم لها، وعملتم على تكريسها أيها العابثون بالمشروع الإسلامي وأهله، حتى إذا جاءت الاستحقاقات بغيرما تشتهي أنفسكم المعتلة قلتم أنى هذا؟ هذا تزوير لحقيقة الاقتراع..! لا .. "قل هو من عند أنفسكم" الاية.
ومن قبل ما فعلتم بالحركة وأبنائها وهم يحذرونكم من هذا المسلك، و ذلك الخط المشؤوم الذي تسير عليه الحركة، ومن مغبة المضي في هذا السبيل، واتهام من يريدون النصح لكم فتسفهون أحلامهم، وتنعتونهم بكل النعوت، ليقصى فريق منهم ويهمش فريق آخر ممن لا يشاطرونكم الرأي، ولا يريدون للمبادىء التي أسست عليها الحركة أن تدنس أو تشوه..
هذا ليعلم الذين يتزعمون الحركة أنما ينصرون بالله أولا ثم بالأتباع من إخوانهم.. قال الشاعر العربي:
أخاك أخاك فإن من لا أخا له كساع إلى الهيجاء بغير سلاح
ومن أصدق من الله قيلا وهو يذكر قيادات المسلمين وعلى رأسهم النبي، صلى الله عليه وسلم، صاحب الدعوة بجميل الرعيل الأول من المؤمنين الذين أووا ونصروا : "هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم..." الاية.
بل ورد النهي بمجرد صرف الأعين عن هؤلاء المؤمنين المحتسبين حين تأتي الدنيا بزخرفها وزينتها، وتذلل بسحرها ونعيمها. "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً الكهف
لا يجوز لكم أن تتكلموا عن التزوير، بعد أن رضيتم بقواعد اللعبة التي حاكها النظام القائم، و لأنكم أنتم من مارستم هذا الخداع على إخوانكم، وسننتموه بين الأتباع وما تجزون إلا ما ألحقتموه بالحركة من تقهقر وانتكاسة، ومن تجاهل رأي الأصلاء من أبنائها والجزاء من جنس العمل..
وهكذا عرّض المشروع الإسلامي للمخاطر حين تحالفتم مع المناوئين له؛ فوئد قبل أن يرى النور على يد من استباح حرمته وحارب أهله، و بين من تزعموه ثم نكصوا على أعقابهم..
فالمعركة اليوم ليست مع أعداء المشروع الاسلامي بقدر ما هي مع أدعيائه... إنها ثورة بين الثابتين عليه، والمتخاذلين النائين عنه!!
فإن يتب هؤلاء يكن خيرا لهم والتوبة هنا تقتضي الإصلاح والتبيان لأنها لا تتعلق بذنب اقترفه الانسان على نفسه أو بفرد يمكن أن يستسمح منه؛ وإنما تتعلق بمسار أمة كنتم تتزعمون مصيرها، وبشعب ضحى بقوافل من الشهداء من خيرة أبنائه وبحركة أبلت بلاء حسنا لتنتهي عندكم فيكون مصيرها إلى ما وصلت إليه من هزيمة تلو الأخرى، وبعد المؤامرة التي تعرضت لها من قبل المناوئين، وتخاذل الضعفاء من أهلها بعد الاستقلال.
فأولى بمن يتزعم العمل الإسلامي أن يتنحوا و ينسحبوا ويلزموا بيوتهم خيرا لمن كان منهم يرجو الله واليوم ألأخر فالأمة لا تطيق استمراركم ولا بقاءكم، وقواعد العمل الاسلامي لا تريد رأيتكم وأنتم تتحدثون باسمها لقد استنفدتم ما عندكم ولن تستطيعوا أن تقدموا لهما شيئا يذكر مما يقودها نحو العلا ونحو مجد تليد..
بقيت لكم ورقة واحدة إن بقي لكم قليل رجولة تحتكمون إليها أن تنسحبوا من تواجدكم من كل هيئة رسمية، ومن هذه المهزلة عسى أن تنظر الأمة إليكم بعين الرضى، وإن عدتم عدنا..
وأهيب بالرعيل الأول للحركة وأبنائها المخلصين أن يظهروا للوجود، وأن يتواصلوا ببعضهم، وألا يتقاعسوا فقد حان دورهم لحمل المشعل، وإعادة التأسيس لعمل إسلامي جديد يرضي ربنا والأمة جمعاء..
على كل لا يجب أن يفهم مما خطته يمني تشفيا ومعاذ الله أن تكون نيتي متجهة صوب هذا القصد اللئيم الأثيم.. وإنما هي تذكرة لنفسي التي جنابات أضلعي أولا، و إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي..
ولولا ما جمعنا من أخوة في الله وخير من قبل، ما تحملت جهد ما خطت يميني، ولا تنسوا الفضل بينكم ، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
بقلم محمد كريم
ليست هناك تعليقات: