لِحكمة بالغة كان ترتيب نظام الكون على ثنائية قطبية بين الخير والشر، يصطرعان مادامت الحياة على هذه البسيطة. ولكل منهما في خضم هذا السجال جولات. مثلما قال أبو سفيان:( يوم لنا ويوم علينا . يوم نُساء ويوم نُسَرّ). هكذا كان يعي الجاهلي الوثني على محدودية فلسفته في الحياة منطق الصراع بينه وبين المسلمين . ومن كبريات المحطات المفصلية تاريخيا، والفاصلة سجاليا في صراع الحق مع الباطل موقعة بدر الكبرى .هذه الحادثة التي تحيل تسميتها بذاتها إلى تأصيل اصطلاحي: هل هي غزوة أم معركة؟ إذْ غلب على تسميتها أثناء تحصيلنا الدراسي الغزوة ، غير أن كثيرا من المؤرخين والأكاديميين في حقل الدراسات الإسلامية المتصلة بالسيرة والسنة النبوية بل والتاريخ الإسلامي عموما يسمونها معركة. وإن كان لا مشاحاة في الاصطلاح فإن هذا المعنى يُتواطؤ عليه حين يطابق الدال المدلول. فالغزوة غالبا ماكانت تتسم بمباغاة العدو الذي يهمُّ بالحملة على المسلمين أو يجهّز لذلك، فيغار عليه في عقر داره، بخلاف المعركة، فإن طرفي الصراع كليهما مستعد للمواجهة، مُواعد لخصمه في زمان ومكان محددين بدقة .لذلك فإن تسمية بدر بالمعركة تبدو أنسب وأدق.
وشاء الله لهذه الموقعة أن يختبر فيها إيمان الفئة القليلة المؤمنة بمناجزة الفئة الكثيرة المشركة المعتدة بعددها وعُدتها وعتادها في ظرف زماني قاس فرضته تجربة أول شهر صيام مفروض في السنة الثانية من الهجرة، فكان المشهد جهادا في خلال عبادة بدنية وهي الصيام .
وبعد تطلّع وإلحاح شديدين من الصحابة للقتال في حدود الأدب مع الله ورسوله نزل القرآن بمشروعية القتال، مع ذكر مسوغاته ودواعيه مما تعرض له المسلمون من أذى واضطهاد، فكان أن ورد الإذن بالقتال لهم فعلا مبنيا للمجهول ( أُذِن) وهي من الصيغ التي نصادفها في القرآن لفرض أمر ما أو تحريمه أو إباحته من قبيل صيغ ( كُتِب عليكم ـ حرِّمت عليكم ـ أُحِلّ لكم .....) ثم جاء فعل المقاتلة في سياق التعليل مبنيا للمجهول، دالا على أن فعلهم رد فعل وليس مُبادءة:(( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ سورة الحج ). (39)) ثم ذكرت الآية التي تليها أبرز مُبررات هذه المشروعية التي تندرج ضمن إطار الحرب الدفاعية عن النفس والمال(.الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ ) كل هذه المقاصد نصت عليها ثلاثة أفعال مبنية للمجهول في الآيتين : ( يُقاتَلون ـ ظُلِموا ـ أُخْرجوا ) . وأنا أتمعن في أزمنة الأفعال تساءلت عن سر تخصيص فعل المقاتلة(يُقاتلون) بالمضارع، في حين أن الفعلين ( ظُلموا ـ أُخْرِجوا) وردا بصيغة الماضي . ولعل في هذا سرا إعجازيا ـ ولا أزعم أني مُخَوّل للخوض في الإعجاز البياني ـ غير أنه وجه من الفهم بدا لي فيه ـ والله أعلم ـ أن الخطاب في الآية مناسباتي ومُطْلَق، عام وخاص . فالفعل (يُقاتَلون) مضارع. ونعلم أن المضارع للاستمرار، مالم تصرفه أداة أو قرينة للمُضيّ. وفي هذه الآية معنى الاستمرار، مما يعني أن الخطاب للأمة في كل زمان ومكان حتى قيام الساعة، إذ العبرة بعُموم اللفظ لا بخصوص السبب. وأما الفعلان الماضيان المبنيان للمجهول ( ظُلِموا ـ أُخرِجوا) فإنهما يتعلقان بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن معه من المُسلمين الذي اضطُهدوا طويلا في مكة، ثم صودرت ممتلكاتهم التي خلّفوها وراءهم . وفي هذا التخصيص سَعة لاستيعاب التعميم إذ متى انطبق مثل هذه الحال على قوم جاز لهم أن يسلكوا هذا المسلك.
وكان في بداية الآية تعميم أيضا فلم يذكر دين هؤلاء الذين شرع لهم القتال بل أخبر عنهم بصيغة الاسم الموصول الخاص (الذين) وصلته الجملة الفعلية ( يقاتَلون) مما يستوعب كل قوم مورس عليهم ضيم وعدوان، ثم خصص هؤلاء بأنهم مؤمنون( إلا أن يقولوا ربنا الله). وأعقب ذلك في بقية الآية التي نصت على أن هذا الدفاع أو المدافعة ليس سُنة كونية لحماية المسلمين ونُصرة الإسلام فحسب، بل لصون معتقدات الغير، وحقهم في الاختلاف(وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) ـ سورة الحج (40 ).
وينفتح السياق القرآني في معرض نسليط الضوء على أطوار هذه المعركة من خلال سورتي آل عمران والأنفال اللتين عرضتا في جملة من الآيات ضمن كل منهما إلى هذا الحدث الذي سُمّي في سورة الأنفال بأنه يوم الفرقان:( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربي واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان)، ونعلم من أسماء القرآن الفرقان، حيث ورد في أول سورة آل عمران : (وأنزل الفرقان) .فمعركة بدر إنجاز للوعد الإلهي بالنصرالمتضمن في القرآن:( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودّون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يُحِقّ الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين) . فقد مالت نفوس المسلمين أول الأمر إلى الغنيمة الباردة رغم أن وعد الله كان العير أو النفير، ونجا أبو سفيان بالعير، وجنًّب قريشا سوء المُنقلب لو أخذوا برأيه، ولكن البطر حمل صناديد الشرك على أن يخرجوا لمصارعهم مأخوذين بالقوة المادية .
ومن خصوصيات هذه الواقعة أنها ذُكِرت في القرآن باسمها الصريح ولم يُذكر سواها إلا الأحزاب( الخندق) وحُنينا، وإذا كانت غزوة حنين تمثل آخر الغزوات باعتبارها وقعت بعد فتح مكة وكان المسلمون فيها كثرة في العُدة والعدد، فإن بدرا قد كانت فاتحة هذه المواجهات، كما تلتقي بدروحنين في أن الملائكة قاتلت في كليهما تثبيتا للمسلمين على خلاف ما بين بدر وحُنين من وقائع وحيثيات تتعلق بمسار المواجهة من مُبتدئها إلى منتهاها. والتدبر في سياق الآيات التي وثقت لبدر، وصوّرتها من كل الجوانب محيط زاخر باللطائف الإيمانية و الدرر المعرفية التي لا يتسع المقام لذكرها، فمن اللطائف الإيمانية نخرج بعقيدة أن النصر من عند الله، وأن القلة المؤمنة تنتصر على الكثرة الكافرة متى ما أخذت بالأسباب، وأن الدعاء من أسباب النصر والتمكين . ومن الدرر المعرفية نستفيد قيما أرساها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قبيل الأخذ بمبدأ الشورى فيما لا وحي فيه، والالتزام بالمواثيق والعهود مثلما كان مع الأنصار حين أراد أن يتبيّن موقفهم من القتال خارج المدينة،على اعتبار أن الاتفاق في بيعة العقبة كان ينص على حمايته في المدينة فضلا عن الجوسسة الحربية باستطلاع خبر قريش ومعرفة تعداد مقاتليها من خلال ما ينحرون من إبل.
ومقام الاستنباط من مواقف هذه المعركة يستوعب ما شاء الله لمن يُقبل على مستويات القراءة من تدبر وما يعقبها من تفسير واستنباط وتأويل، مما يجد فيه أهل كل عصر جديدا مفيدا، ورأيا سديدا، وسمتا حميدا.
وقصارى القول أن معركة بدر مازالت مرجعا دائم الحضور في علاقات المسلمين بالغير، وضابطا لإحراز العزة، غير أنها في حاجة إلى قراءة إسقاطية تتجاوز السرد السِّيَري التاريخي الموسمي إلى تثوير النص القرآني، لاكتناه مرتكزات الإقلاع والانبعاث . ورحم الله عبد الله بن عباس إذ يقول: (( ثَوِّروا هذا القرآن)) . ف(بَدر) سرالقوة بعد الضعف، والعزة بعد الذلة، وصدق الله العظيم في محكم تنزيله:( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ) سورة آل عمران . الآية 123
ليست هناك تعليقات: