Slider

فيديو

أخبار وسارية

هـــــام

أخبار الوطن

أخبار الولاية

صوت المواطن

رياضة

ثقافة

مقال الرأي

» » فيلم Gran Torino


رسالة مناهضة للعنصرية من عنصري أبيض لم ترضَ عنها كل هوليود د. إبراهيم علوش

يتوهم الناظرون للنزعة العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية من خارجها أحياناً أنها نتاجٌ لمواقف متعصبةٍ لا أساس لها في الواقع سوى التحيز الأعمى والكراهية والأيديولوجيات العرقية البائدة. غير أن العلاقات بين الأعراق في الولايات المتحدة وتوتراتها تشكل واحدة من أهم محاور أجندة السياسة الداخلية من الجمهوريين إلى الديموقراطيين إلى كل الأحزاب الثانوية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. والمشكلة العرقية تبقى أمريكياً حقيقة سائدة في مكان العمل والدراسة، ولكن بالأخص في مكان الإقامة بين الأحياء السكنية. وفيما تشكو الأقليات من التمييز الظاهر أو المستتر النابع من الاختلاف العرقي، تشكو الأكثرية البيضاء من ارتفاع معدل الجريمة والانهيار الاجتماعي وانخفاض أسعار المنازل التي اشتروها في الأحياء التي تبدأ الأقليات بالانتقال إليها. وغالباً ما يؤدي بدء انتقال بعض العائلات من الأقليات إلى حي ما إلى بدء هجرة البيض منه وانخفاض قيم العقارات وإغلاق المتاجر القريبة، خاصةً مع ظهور العصابات المتقاتلة بالأسلحة النارية على الهيمنة على الأحياء.

وينظر البعض لتلك العصابات من خلال بعد اجتماعي-اقتصادي كتعبير عن حالة الحرمان والتهميش التي يعيشها أبناء الأقليات في الأحياء الفقيرة، البيضاء سابقاً في الأغلب. لكن الحقيقة المرة، حتى لو افترضنا جدلاً أن العصابات في أحياء الأقليات تمثل ردة فعلٍ عمياء صماء على التهميش الاجتماعي والتمييز العنصري، فإنها تبقى قوى تعمل بالإجرام أساساً كما أن معظم ضحاياها من أبناء الأقليات أنفسهم في نفس الأحياء وفي الأحياء المجاورة.

وفي انتفاضة لوس أنجلوس مثلاً عام 1992، التي انفجرت في أحياء الأفارقة الأمريكيين في المدينة، اختلط الاحتجاج العنيف والمسلح على ظروف القهر مع انفلات العصابات الإجرامية في الشوارع لنهب وحرق متاجر الأقلية الكورية أساساً، مما سمح للنظام أن ينفي أية رسالة سياسية للتحرك وأن يقدمه كعملية انتهاك جماعية للقانون من قبل العصابات فحسب، وهو ما زاد من الاحتقان العرقي طبعاً والعنصرية والخوف... وهي وقائع تصيب الكثير من الناس بالقلق على عائلاتهم وأولادهم وقيم منازلهم وأمنهم الشخصي، وبالتالي لا يمكن نبذها ببساطة ببعض العظات البليغة عن مساوئ العنصرية! كما أن اليمين واليمين المتطرف يجد فيها مرتعاً خصباً لحشد التأييد السياسي والانتخابي باتجاهه.

وعلى هذه الأرضية فقط من التوترات العرقية الكامنة دوماً، المنفلتة من عقالها أحياناً، يمكن أن نفهم فيلم غران تورينو Gran Torino من إخراج وتمثيل كلنت إيستوود، الممثل القدير منذ أكثر من نصف قرن، كفيلم يتصدى لواحد من الأسئلة الكبرى في الحياة الأمريكية المعاصرة.

وهو من أنجح أفلام عام 2009 وقد تم إطلاقه على نطاق محدود في 12/12/2008، ورسمياً في 9/1/2009. وبلغت موازنته 33 مليون دولار وبلغت عائداته حتى أواسط شهر تموز 2009 حوالي 264 مليون دولار، منها حوالي مئة وخمسين مليون دولار من داخل الولايات المتحدة، مما يدل ليس على تميز الفيلم فنياً، بل على قرب موضوعه من حياة عامة الناس أيضاً.

محور الفيلم هو والت كوالسكي (الممثل كلينت إيستوود)، المتقاعد بعد عقود من العمل في مصانع فورد للسيارات، والجندي السابق في الحرب الكورية بين عامي 1950 و1953، والعنصري الأبيض حتى النخاع. ولذلك فإن وجود مثل هذا الرجل الكهل وحده، بعد وفاة زوجته، وزواج أبنائه وانتقالهم للعيش مع عائلاتهم منذ سنوات، في حي بات مليئاً بعائلات من أقلية "همونغ" Hmong المهاجرة لأمريكا من فيتنام ولاوس في جنوب شرق آسيا يحتوي بعداً درامياً يدير الرؤوس بحد ذاته بالنسبة لأي أمريكي، بناءً على ما جاء أعلاه، حتى قبل فهم العقدة والحوار والشخصيات، وقبل أن نكتشف سريعاً بأن الأحياء المجاورة تقنطها أقليات أخرى وتسيطر عليها العصابات أيضاً.

وإذ يراقب والت كوالسكي تدفق المهاجرين الآسيويين يطلق سيلاً من الشتائم العنصرية، ويختلط عليه الأمر بين الكوريين الذين حاربهم في بداية الخمسينات وأقلية الهمونغ القادمة من جنوب شرق آسيا إلى الحي العمالي الأبيض سابقاً الذي يقع فيه منزله والذي قضى كوالسكي فيه معظم حياته البالغة. وهو حيٌ يقع في منطقة هايلاند بارك، ديترويت، في ولاية ميشيغان الأمريكية، وهي ولاية كانت يوماً معلماً بارزاً لصناعة السيارات الأمريكية، قبل أن تبدأ بالتهاوي المريع، وهي خلفية بارزة للفيلم.

ولا بد من الإشارة هنا أن العنصرية البيضاء كثيراً ما تنطلق من أحياء عمالية صناعية تعاني من هجرة المصانع إلى دول العالم الثالث أو من إغلاقها، ومن منافسة العمالة المهاجرة الرخيصة، على خلاف ما يوحي به النموذج اليساري التقليدي تماماً... ومن المهم الانتباه بالتالي أن الخطاب المناهض للعنصرية، بالمقابل، يرتبط في الولايات المتحدة بالنخب المعولمة للشركات متعدية الحدود، الساعية لتجاوز الهوية من أجل فرض هيمنة عالمية للرأس مال، بقدر ما يرتبط بمناهضة الأقليات للتمييز العنصري، أي أن للخطاب المناهض للعنصرية وجهان أحدهما يمثل مصالح رأس المال المالي الدولي المناهضة لمصالح رأس المال الوطني والصناعة المحلية.

وفهم هذه التناقضات ضروري جداً لفهم اسم الفيلم "غران تورينو" الذي يأتي من اسم سيارة كانت تنتجها شركة فورد الأمريكية للسيارات، بين نهاية الستينات وأواسط السبعينات، ويحتفظ بطل الفيلم والت كوالسكي، العامل عقوداً في مصنع سيارات فورد، المعتز بشدة بالصناعة الوطنية، والذي يجد أولاده يعملون ببيع السيارات الأجنبية، بواحدة منها، موديل 1972، في مرآب بيته. وقد يذكر بعض القراء سيارة غران تورينو من المسلسل البوليسي ستارسكي وهاتش موديل 1975، أما هنا فإن الموديل هو 1972، وهذا التاريخ مهم، لأنه جاء قبل عام 1973 عندما وقعت الأزمة النفطية، وبدأت صناعة السيارات الأمريكية بالتدهور، لتحل محلها السيارات صغيرة الحجم، اليابانية خاصة، بفعل ارتفاع أسعار النفط والمنافسة الأجنبية.

إذن احتفاظ والت كوالسكي بسيارة غران تورينو موديل 1972، اشتراها لحظة خروجها من خط الإنتاج في مصنع فورد، وحافظ عليها حتى يومنا هذا بأفضل حال، يمثل عنوان اعتزازه بالصناعة الأمريكية، وبالوطنية الأمريكية، وبمرحلة كان يراها المرحلة الذهبية لأمريكا ولحياته الشخصية. فسيارة الغران تورينو جزء من شخصيته، وعنوان الفيلم، كما أنها من النوع الذي يحبه الشباب الأمريكي الأبيض في الأرياف والأحياء العمالية، فهي رياضية وليست فاخرة بالمعنى التقليدي، وتشبه حصان الكابوي بين السيارات، وهي تعوض جزئياً عن كبر سن الممثل لجذب الجمهور، حيث بلغ كلنت إيستوود بطل فيلم غران تورينو 78 عاماً، وهو ما جعل أكثر من منتج محتمل يحذر من خطورة تنفير الجمهور في فيلم من هذا النوع .

كلينت إيستوود لم يهرب من حقيقة كبر سنه، بل استغلها ليعزز البنية الدرامية للفيلم بيجعل والت كوالسكي يعيش في الماضي في كل شيء، فهو يملك بندقية ومسدساً كانا يستخدمان في الحرب الكورية، حافظ عليهما بأفضل حال أيضاً، وهو، بالرغم من تدهور حالته الصحية، يشرب البيرة الرخيصة على شرفة منزله وكثيراً ما يدخن كأنه يعيش في الخمسينات، دونما تأثر بالحملات الإعلامية المضادة للتدخين التي يطلقها نازيو الديكتاتورية الصحية حول العالم!

علاقة والت كوالسكي عدائية مع العالم حوله، ليس فقط مع الأقليات المهاجرة التي يراها كقطعان من الغزاة الأجانب، بل أيضاً مع عائلات أولاده التي يراها غريبة عنه في القيم والسلوك والمفاهيم. وحسب التقليد الأمريكي العريق، تراه على علاقة ممتازة مع كلبته الأليفة "ديزي"، وهي كبيرة السن أيضاً...

المهم، تحاول عصابة الحي أن تجبر ابن عائلة تعيش بمحاذاة والت كوالسكي، من أقلية "الهمونغ" أيضاً، أن ينتسب إليها... وكشرط لانتسابه، يفرضون على الشاب الصغير الطيب والهادئ أن يسرق سيارة الغران تورينو الخاصة بوالت كوالسكي، فيستيقظ كوالسكي على أصوات في الليل في مرآبه، ويشهر على السارق بندقية الأم 1 M1 المصروفة له أيام الحرب الكورية، فيهرب السارق...

نقطة التحول في علاقة والت كوالسكي بمحيطه تأتي حينما تحاول عصابة الحي أن تعتدي على نفس عائلة جيران كوالسكي من "الهمونغ" لرفض الابن التعاطي معهم والامتثال لطلباتهم، مما يسبب أذىً طفيفاً لحديقة منزل كوالسكي، فيخرج إليهم شاهراً سلاحه ويجبرهم على المغادرة، منقذاً جيرانه فعلياً دون أن يقصد، لأنه كان يريد فقط طرد عصابة "الصفر"، إشارة للعرق الأصفر، من أمام منزله، ومتلفظاً بعبارات عنصرية إزاء كل ذلك العرق، لكن جيرانه في كل الحي يقومون، عرفاناً منهم بالجميل، بترك الهدايا وشتلات الزرع والأطعمة الفاخرة له أمام شرفة منزله. فيغمرونه بلطفهم كما يقال، ويبدأ بالإحساس بالفرق ما بين طمع عائلات أولاده به، وتعاطي هؤلاء الناس الراقي معه، فيبدأ بتخطي عنصريته.

وبعدما ينقذ ابنة نفس العائلة من عصابة من الأفارقة الأمريكيين في الحي المجاور، وهي تسير مع صديقها الأبيض في الشارع (هو في الواقع ابن كلينت ايستوود الأصغر)، مستخدماً مسدساً صرف له أيام الحرب الكورية، تصادقه تلك الفتاة الذكية وتفرض عليه عملياً علاقة جيرة وصداقة مع عائلتها تخرجه في النهاية من قوقعته الفردية المتصلبة ومن عنصريته في آنٍ معاً، ليرسل من خلال الفيلم رسالة توافق بين الأعراق، لا تخرج عن السياسة العامة للنخبة الحاكمة الأمريكية في مرحلة العولمة، دون أن يقبل التسامح مع الجريمة، وهو العنوان الذي يستخدمه الجمهوريون واليمين للحقن العنصري.

كيف تتطور الأحداث الدرامية بعدها هو أمرٌ نتركه للقارئ. المهم أن كلينت أيستوود كممثل قدير غير عادي، في سن ال78 في فيلم ذي بعد أكشن نوعاً ما، نجح بقوة شخصيته فحسب، وبتعبيرات وجهه تقريباً، دون إطلاق النيران، رغم تهديده باستخدام السلاح، بفرض حضوره بصورة مقنعة على الشاشة وعلى حبكة الفيلم. فيتحول في النهاية إلى محارب يدافع عن الأقلية المقيمة بجواره، أو التي يقيم هو بينها الآن، في مواجهة العصابة التي تهدد وجودها. وفي قيامه بذلك، يسدد حساباته مع تاريخه الشخصي، وبدرجة ما، مع النقاط المظلمة في التاريخ الأمريكي الذي يعتز به. لا بل أنه نجح في قمة استخدامه للإرهاب المعنوي بإطلاق فكاهة تثير الضحك في الكثير من المواضع، وباللعب على الألفاظ للتحقير والمزاح، أي لنزع الحدية من نمط "إياك أن تمزح معي" الذي يعتمد عليه في الفيلم! مثلاً، عندما يتعرف على ابن عائلة جيرانه الذي حاول أن يسرق سيارته يقول له الأخير أن اسمه "تاو" Thao، فيناديه كليت إيستوود "تود" Toad، وهي تعني ضفدع الطين، أو شخص تافه بالعامية الأمريكية. وفيما يتعلق بفتاة الحي التي تعجب "تاو"، يقول "تاو" لكوالسكي أن اسمها "يوا" فيسميها يم يم Yum Yum، أي الطعام الزاكي! وهي طريقة للعنصريين البيض بالتهكم على الأسماء الأجنبية، ترسم في نفس الوقت جانباً من شخصية كلينت إيستوود في الفيلم.

وقد حصل الفيلم على عدد من الجوائز الثانوية، لكنه لم يُرشح لأي جائزة أوسكار، بالرغم من نجاحه التجاري الرهيب، على ما اعتقد بسبب تهكم إيستوود على اليهود بشكل عابر جداً – ولذيذ - بضع مرات، وبالرغم من أنه كان يراهن على ما يبدو على قدرته على تمرير هذا الأمر اعتماداً على التحولات التي تجري في شخصيته لاحقاً، وعلى كون الرسالة الأساسية للفيلم متوافقة مع رسالة مناهضة العنصرية التي تتبناها المؤسسة الحاكمة الأمريكية والنخبة اليهودية المسيطرة على هوليود، لكن دوره كعنصري (اقرأ: كمعادٍ لليهود) في البداية كان مقنعاً إلى درجة يرى بعض النقاد أنه لم يتمكن من محوه بتحولات شخصيته بشكلٍ كافٍ فيما بعد... كما أن نموذج الرجل الأبيض البطل، ولو في سياق مناهض للعنصرية، هو نموذج تسعى النخبة اليهودية في هوليود لتفكيكه وضربه.

وأخيراً، لا بد من أن نذكر أن أقلية "همونغ" التي يدور الفيلم حولها هي أقلية صينية الأصل ولها امتدادات في فيتنام ولاوس وتايلند، وقد حاربت بضراوة مع الاحتلال الأمريكي ضد حركة التحرر الوطني في فيتنام ولاوس، ومن هنا التساهل مع هجرتها للولايات المتحدة وغيرها. وقد تم ذكر ذلك في الفيلم أيضاً لتحبيب الأمريكيين البيض بهم. فالحديث يدور عن اندماج اجتماعي بين مكونات دولة إمبريالية في النهاية، وليس في فراغ...

«
التالي
رسالة أحدث
»
السابق
رسالة أقدم

ليست هناك تعليقات:

هل لديك تعليق على الموضوع؟